طرابلس تنهار أمنيا.. وبرلماني ليبي لـ "الصحيفة": الدبيبة لن يكون جزءا من أي صلح حقيقي بين الفصائل المسلحة
تعيش العاصمة الليبية طرابلس منذ ليلة الاثنين الماضية على وقع توتر أمني غير مسبوق، بعدما تحولت شوارعها إلى ساحة اشتباكات مسلحة بين تشكيلات تابعة لأطراف أمنية متنافسة، ما خلف حالة من الهلع بين المدنيين وسط تحذيرات محلية ودولية من تداعيات تنذر بانهيار السلم الأهلي الهش، وتُعيد ليبيا إلى مربع العنف والفوضى.
ومع الساعات الأولى من صباح اليوم الأربعاء، بثت وكالة الأنباء الليبية بيانا عاجلا للمجلس البلدي لطرابلس – المركز، دعا فيه إلى وقف فوري لإطلاق النار و"تحكيم العقل"، محذرا من "تداعيات خطيرة تهدد السلم الأهلي وتزيد من اتساع رقعة الانقسام بين المدن والمكونات الليبية"، كما أدان المجلس ما وصفه بـ"تصاعد الاشتباكات المسلحة في وسط العاصمة وتحول شوارعها إلى ساحة حرب".
وردود الفعل الدولية من جانبها لم تتأخر كثيرا، فبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عبّرت في منشور لها على صفحتها الرسمية بموقع "فيسبوك" عن إدانتها الشديدة لـ"التصعيد المتسارع لأعمال العنف في طرابلس"، مشيرة إلى وجود تقارير تؤكد سقوط ضحايا من المدنيين، كما نبّهت إلى وجود حشد عسكري في مناطق أخرى من البلاد، ما يعزز المخاوف من امتداد رقعة التوتر إلى مدن ليبية أخرى.
وأكدت البعثة الأممية أنها على تواصل مستمر مع الأطراف المعنية على الأرض والشركاء الدوليين، في محاولة لاحتواء الوضع قبل خروجه عن السيطرة.
وفي السياق نفسه، عبّرت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا عن "قلقها البالغ" من استمرار العنف في الأحياء السكنية بطرابلس، داعية إلى "تهدئة فورية" واستعادة الهدوء في المناطق المتضررة، في رسالة تعكس الاهتمام المتزايد للمجتمع الدولي بتفادي انفلات أمني واسع قد ينسف أي جهود للاستقرار السياسي.
المشهد الميداني المتفجر، لم يخلُ من ارتدادات سياسية حادة ففي تحرك لافت، عقد رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي فجر الأربعاء اجتماعا مع وفد من منطقة سوق الجمعة، أحد أبرز أحياء العاصمة المتأثرة بالاشتباكات، وذلك وفقا لما أفاد به المكتب الإعلامي للمجلس ونقلته وكالة الأنباء الليبية الرسمية.
الوفد وفق البيان، عبّر عن "استيائه" من قرارات رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، والتي "تمس بشكل مباشر أجهزة أمنية منضبطة وفاعلة"، ما يشير إلى خلاف واضح بين المجلس الرئاسي والجهاز التنفيذي حول النفوذ على المؤسسات الأمنية.
واختتم اللقاء بتأكيد مشترك على "دعم سيادة القانون واختصاصات المجلس الرئاسي وعدم التعدي عليها تحت أي ذريعة"، في موقف يفهم منه أن المجلس الرئاسي يعتبر نفسه مستهدفًا من قبل قرارات الحكومة، ما ينذر بأزمة مؤسساتية جديدة في قمة هرم السلطة.
من جهته، سارع عبد الحميد الدبيبة إلى محاولة احتواء الوضع عبر الترويج لرواية النصر المؤسساتي، حيث كتب على حسابه في "فيسبوك" بعد إعلان السيطرة على الاشتباكات: "ما تحقق في طرابلس يؤكد أن المؤسسات النظامية قادرة على حماية الوطن وحفظ كرامة المواطنين، ويرسخ مبدأ أنه لا مكان في ليبيا إلا لمؤسسات الدولة، ولا سلطة إلا للقانون".
وهذا التصريح رغم نبرته التطمينية، وُوجه بانتقادات سياسية حادة، خصوصا في ظل استمرار الاشتباكات وامتدادها إلى أحياء مكتظة بالسكان.
وفي السياق ذاته، أصدر عبدالباسط امحمد صالح القماطي، المرشح لرئاسة الحكومة الليبية الموحدة، بيانا شديد اللهجة، وصف فيه ما يجري في طرابلس بأنه "مأساة مؤلمة"، محمّلًا حكومة الدبيبة مسؤولية الفشل.
وقال القماطي في بيانه الذي تتوفر عليه "الصحيفة": "إن هذه الأحداث تعكس بوضوح الفشل الذريع لسياسات حكومة عبد الحميد الدبيبة، التي تواصل التمسك بالسلطة على حساب أرواح الليبيين وأمنهم. لقد أصبحت مؤسسات الدولة أدوات للفساد، وغابت الشفافية والمحاسبة، مما أدى إلى تفشي ثقافة الإفلات من العقاب".
وتابع: "نحمّل عبد الحميد الدبيبة وحكومته المسؤولية الكاملة عن هذه الفوضى والدمار، ونؤكد أن محاولات التمديد غير الشرعية لهذه الحكومة لن تمر. لقد عبّر الشعب الليبي عن رغبته في التغيير والانتقال إلى مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي تقوم على الشرعية والمصالحة الوطنية".
وختم القماطي بيانه بالقول: "نترحم على أرواح الشهداء وندعو بالشفاء العاجل للجرحى، ونجدد التزامنا بمشروع وطني شامل ينقذ البلاد من هذا النفق المظلم، ويعيد للدولة هيبتها وللشعب كرامته".
وتجدد الاشتباكات في طرابلس، وما صاحبها من سقوط ضحايا وترويع للمدنيين، لا يمكن قراءته بعيدا عن الواقع السياسي المنقسم الذي تعيشه ليبيا منذ سنوات، فبين مؤسسات متنازعة، وتشكيلات أمنية متعددة الولاءات، وغياب فعلي لسلطة موحدة، تبدو العاصمة رهينة لصراع نفوذ معقد، يتغذى من التناقضات بين المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة، ومن تعطيل مسار الانتخابات، ومن بقاء المرتزقة والميليشيات المسلحة خارج إطار الدولة.
وفي تصريح خاص لـ "الصحيفة"، عبّر عضو مجلس النواب الليبي، علي التكبالي، عن قلقه العميق إزاء تفاقم الأوضاع الأمنية في العاصمة طرابلس، في ظل الاشتباكات المسلحة التي اندلعت بين تشكيلات مسلحة متنازعة، مؤكدا أن "ما نشهده ليس مجرد حادث عرضي، بل هو تصاعد مقلق في وتيرة التشابك بين قوى السلاح، وانزلاق خطير نحو فوضى أمنية لا يمكن التكهن بنهايتها"، على حد تعبيره.
وأشار التكبالي إلى أن طرابلس أصبحت اليوم "مدينة مرهقة بأعباء النفوذ المتقاطع والتوازنات الهشة"، في وقت يغيب فيه أي أفق حقيقي لحل مستدام، ويُترك المدنيون في مواجهة أقدارهم بين خطوط الاشتباك.
وفي معرض تقييمه لمسؤولية الحكومة القائمة، وجّه التكبالي انتقادات لاذعة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، معتبرا أنه "لن يكون جزءا من أي صلح حقيقي بين الفصائل المسلحة، لأنه يستفيد سياسيا من حالة التفكك الأمني، ويبني نفوذه على توازنات القوة بين المجموعات المتصارعة بدلا من العمل على نزع سلاحها وتوحيد القيادة الأمنية تحت سلطة شرعية واحدة".
وأضاف أن "بعض الوجوه ستخرج لا محالة من المشهد الليبي قريبا، لأنها ارتبطت زمنيا بمراحل الفوضى والانتقال المشلول"، معربا عن أمله في أن تكون المرحلة القادمة "مرحلة تجديد حقيقي للشرعية، لا تكريس لوجوه اعتادت اللعب على حبال الانقسام".
وأكد النائب الليبي أن الخروج من هذه الأزمة لن يكون ممكنا إلا عبر تدخل دولي جاد من القوى الفاعلة إقليميا ودوليا، مشددا على ضرورة تعزيز دعم بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وتمكينها من أداء دور فاعل في توحيد المؤسسات، وتهيئة المناخ السياسي والأمني لإجراء انتخابات شاملة ونزيهة تُعيد للشعب الليبي حقه في اختيار من يمثله.
وقال التكبالي: "نحن في حاجة إلى حكومة وحدة وطنية حقيقية، لا واجهة سلطوية هشّة تدير الفوضى بدلا من تفكيكها"، لافتا إلى أن استمرار الوضع الحالي لن يؤدي إلا إلى "مزيد من الفوضى، وتكريس الانقسام، واستمرار النهب السياسي والمالي، في غياب مؤسسات رقابية فعالة".
واختتم تصريحه لـ "الصحيفة" بالقول: "ما دون ذلك، لن يكون أمامنا سوى دوامة الانهيار المستمر.. وستظل ليبيا على حالها، بلدا محاصرا بالسلاح، مشلولا بالتجاذبات، وغائبا عن مشهد استقرار طال انتظاره".
وفي ظل هذا المشهد المتداخل، لا يبدو أن الحل يكمن في خطابات التهدئة ولا في بيانات القلق المتكررة الصادرة عن المجتمع الدولي، بقدر ما يتطلب الأمر حوارا سياسيا حقيقيا وشاملا يعيد هيكلة المنظومة الأمنية والمؤسساتية على أسس الشرعية الشعبية والمصالحة الوطنية، فطرابلس، كما ليبيا عموما، تدفع ثمن حالة السيولة الدستورية والانقسام المؤسساتي، حيث تتنازع الشرعية بين أجسام سياسية متوازية، وحكومتين متنافستين، وسلطات أمنية موزعة على خطوط تماس النفوذ.
وهو بالضبط ما أكدته معظم جلسات الحوار الليبي – الليبي التي رعتها المملكة المغربية على امتداد السنوات الأخيرة، سواء عبر اتفاق الصخيرات الموقع في 17 دجنبر 2015، والذي وُصف حينها بأنه "الإطار المرجعي الوحيد" لتنظيم العملية السياسية، أو من خلال جولات بوزنيقة المتعددة، والتي نجحت منذ عام 2020 وحتى 2025، في تحقيق تفاهمات جوهرية، أبرزها الاتفاق على معايير وآليات تولي المناصب السيادية السبعة المنصوص عليها في المادة 15 من اتفاق الصخيرات.
كما شكّلت هذه اللقاءات فرصة نادرة، وُصفت دوليا بأنها "نموذج لحوار ليبي خالص وهادئ"، إذ جمعت لأول مرة منذ سنوات ممثلين بارزين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، ووضعت خطوطا عملية لتوحيد المؤسسات المنقسمة، بدءا من المصرف المركزي والرقابة الإدارية، وصولا إلى المحكمة العليا وهيئة مكافحة الفساد.
لكن، وعلى الرغم من هذه الدينامية، ظل غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتنازعة، وتدخلات بعض القوى الإقليمية والدولية، عائقا أمام ترجمة هذه التفاهمات إلى مخرجات تنفيذية تنقل البلاد إلى حالة من الاستقرار المؤسساتي الحقيقي.
ومع عودة الاشتباكات إلى قلب العاصمة، فإن إعادة إحياء مسارات الحوار السابقة برعاية مغربية أو أممية، وفق رؤية متجددة تنطلق من محورية تفكيك المنظومة الموازية للسلاح، وتوحيد القيادة الأمنية تحت سلطة مدنية منتخبة، أصبح ضرورة وجودية قبل أن تنزلق البلاد مجددا نحو فوضى شاملة.




